2016/07/03

حسن م. يوسف
حسن م. يوسف

الوطن | حسن م. يوسف

أخي الحبيب أبا حازم، مضى ربع قرن على ذلك اللقاء الذي طلبت مني فيه أن أحول رواية كبيرنا المبدع حنا مينة «نهاية رجل شجاع» إلى مسلسل تلفزيوني. يومها وضعت يدي على قلبي خوفاً من التجربة، فأنا لا أحب التلفزيون من جهة، ولا أثق بقدرتي على كتابة مسلسل طويل من جهة أخرى. لكنني يومها لم أتردد كثيراً لأنني كنت أحبك وأثق بك. والحق أن ثقتي بك وحبي لشخصك المبدع لم يكفا يوماً عن النمو.
عندما بدأت في كتابة سيناريو «نهاية رجل شجاع» كنت أسكن في خيمة قرب الموقع الذي نويت أن أعمِّر فيه بيتي في القرية، وقد كتبت ثلاث عشرة حلقة في تلك الخيمة، وذات يوم صيفي شديد الحرارة كنت منهمكاً في سقاية أشجار التفاح التي زرعتها في أحد المدرجات أسفل البيت عندما سمعت هسيساً وفرقعة من جهة خيمتي، ولن أنسى ما حييت مشهد ألسنة اللهب وهي تتراقص فوقها. عدوت بأقصى طاقتي، وعندما وصلت كان الحريق الناجم عن ماس كهربائي قد أتى على نسيج الخيمة، لكن طاولتي كانت لا تزال تشتعل من كل الجهات وفوقها، حلقات المسلسل اليتيمة المكتوبة بخط اليد وجهاز التسجيل وأشرطة موسيقاي المفضلة ونسخة الرواية التي كنت أعمل عليها.
أعترف لك يا أخي أيمن، أن رجلي خانتاني لحظتها، فتهالكت أرضاً وأنا أسمع دقات قلبي بوضوح، وخيل إلي أن قلبي سينفجر إن لم ينفر الدم من أنفي.
في تلك اللحظات السوداء فكرت بك وبالثقة التي أوليتني إياها، فقررت أن أستعيد النص من الرماد، عزلت نفسي في إحدى غرف بيت أخي المهجور وبدأت أكتب كالمحموم، وعند الفجر كنت قد استعدت الحلقة الأولى فارتميت فوق السرير ونمت بكامل ثيابي.
عندما التقينا بعد نحو شهر رويت لك قصتي باقتضاب وأعطيتك صور الحريق التي التقطها أحد أصدقائي ولن أنسى ما حييت نظرة التعاطف التي رأيتها في عينيك ونبرة صوتك وأنت تغمغم بذهول: ما هذا؟ هيروشيما!
لست أدري كيف تمكنت من إعادة كتابة الحلقات المحروقة، لكنني على ثقة تامة أن شعوري بالمسؤولية تجاهك كان له تأثير حاسم في هذا الأمر.
أخي الحبيب أبا حازم، أعترف لك أنني هربت في الأسبوع الماضي من مواجهة الكلام الذي نشرته على صفحتك في الفيس بوك وقد حاولت أن أفعل الشيء نفسه قبل قليل لكن محاولتي باءت بالفشل، فكلماتك ترفض أن تغيب كما لو أنها منقوشة على الهواء أمام عيني:
«شعور كبير بالوحشة، كأنني خارج كل معادلات المحيط. أحس أنني في هذه السنوات أسير على أرض لزجة لا أدري كيف تدفعني إلى زوايا لا أشتهيها. رغبة عارمة تعتريني أن ألوّح بيدي لهذه المهنة، أهجرها فما عادت تفاصيلها تشبه أحلامي. الفكرة تراودني بشدة، ترهقني لا أدري أين أقف الآن، لكنني ألمح بجواري تخوم العزلة».
أعلم أيها الأخ والصديق أبا حازم أنه لا يمكن لأحد في هذه الدنيا أن يشعر بشعورك وأنت ترى المهنة التي أعطيتها ضوء عمرك تنحدر على أيدي أصحاب الدكاكين والكشتبنجية، فزمن الفنان المنتج ولى مع الأسف ولم يعد في الساحة إلا الضباع والكلاب، وأنت رجل حر لم تعتد أن تطعم الكلاب ولا أن تسمح للضباع بأن تأكل لحمك!
أعلم أنك تعني كل حرف كتبته، ويحز في نفسي أن أسمعك تقول بوجع شديد: «كل ما آمنا به وحلمنا به أضحى غريباً، وما أوجع أن تعيش زمناً لا يشبه ما كنت تصبو إليه. العبث هو العنوان الذي يليق بما نعيش».
لست أشك بأنك كنت تعني كل كلمة كتبتها في تشخيصك الحقيقي للواقع المر، لكنني أجزم في ضوء الثقة التي طالما كنت تعطيها وتثبت جدارتك بها، أن ما قلته ليس إعلان استسلام للواقع بل دعوة حارة لمقاومته وتغييره. دمت بخير.