ويفضّل أيضاً تحلّي الكاتب بالمرونة الكافية، لطهو وصفة «بان آراب» استهلاكية، قوامها قصص الحب المعرّبة، والخيانة، والدعارة، والعنف المافيوي، والأجواء البوليسية... وإلا ليس أمامه خيار سوى المزيد من العنتريات الشامية، ولا بأس بقصص تكرس عصر الحريم. وحين يوسَمُ معظم النتاج الدرامي السوري خلال السنوات الأخيرة بخفوت البريق وتكرار الأفكار، تتعالى أصوات المنتجين شاكيةً من غياب النصوص، أو احتكار منتجين آخرين للجيّد منها، وإبقائه حبيساً لأدراج مكاتبهم.
هل تعاني الدراما السورية من أزمة نصوص، أم أن المشكلة تكمن في اصطدام ما يمكن أن يقوله الكتّاب بمتطلبات السوق، وشركات الإنتاج، واتجاهات المحطّات السياسية؟ أجاب الكاتب السوري سامر رضوان عن سؤالنا في مداخلة خاصّة كتبها لـ«الأخبار» من بيروت: «ليس مفيداً التعامل مع الدراما كنتاج فردي على غرار القصيدة أو الرواية أو اللوحة، لأنها بالتأكيد ليست كذلك. ولا يجوز حتى من باب التكريم، تحميلها أكبر ممّا يستطيع جسدها. هذا ظلم يُدخلِها في متاهة لا تعنيها، ويدخل صانعيها (كتاباً ومخرجين وممثلين وفنيين) في وهم أنهم أسباب ونتائج، مع أنهم ليسوا كذلك في الحقيقة. الدراما التلفزيونية صناعة جماعية أولاً، تدخل حيز التجارة ولو تم إنجازها وفق شروط ماهرة. المهارة في هذا السياق لا تنفي الربحية القابلة للتضحية بشروط الجودة لصالح شروط التسويق. من هنا ينطلق الكلام، لا من أسئلة قديمة تخص الفنون الفردية، التي في أساس إنتاجها لا تحترم شروط السوق ولا تأبه بها. وعليه، فإن سؤال الهوية عبء تم تحميله للدراما اعتباطاً، لأن المعني الأول في بداية الصناعة وانطلاقتها صاحب رأس المال، وليس الكاتب أو المخرج أو الممثل». وأضاف صاحب «لعنة الطين» (2010) الذي أجهضت الموضة السائدة في السوق أحدث مشاريعه «أطلقوا الرصاص» في الموسم الفائت: «بيقين نقدي أقول إنّ أصحاب رؤوس الأموال العاملين في القطاعات الفنية أنصاف أميين، لا يعنيهم من الصناعة إلا دورة رأس المال، وقد تعاملتُ مع منتجين كانوا يسألونني عن حكاية العمل بعد شهرين من بداية التصوير. إذاً القلق الذي نبديه تجاه الدراما ورسائلها، مختلف عن قلق المنتج الذي يعنيه كل شيء إلا الدراما ورسائلها. وعليه: هاتوا أياً كان ليصنع، شرط أن تعود نقودي مع فائض ربحي معقول. فعن أي هوية نتحدث، وقد صار العاملون في القطاع الدرامي تابعين لمنتج أميّ بسبب ضيق الخيارات وانسداد كل أفق؟! حتى مؤسسات الدول التي يمكن أن يعوّل عليها في تبنّي شرط المال بالنسبة إلى الموسم الدرامي، تورطت في الذهنية نفسها، ولم يعد سؤال الجدوى المالي مرتبطاً بسؤال الجدوى الفني والفكري. هنا تسقط كل المحاولات الكاذبة التي يصدع رؤوسنا بها مديرو تلك المؤسسات، فهم ورثة الخراب ومروّجوه الجدد، ولا يمكن لمن كان سبب المشكلة أن يكون جزءاً من الحل. قد يبدو الرأي سوداوياً وعنيفاً استناداً إلى متعة تربية الأمل، لكن قراءة الواقع الموضوعي تفرز لديّ هذه الاستنتاجات».
كاتب ثلاثية «ولادة من الخاصرة» (2011 ــ 2013) برّأ الكتّاب والمخرجين والممثلين «من هذا الحيف الذي يقع عليهم كل موسم»، وحمّل «رداءة ما يحدث» إلى «مال عربي لم يستثمر إلا في تهديم كل شيء، وبناء الممالك الشخصية. المال العربي هو الذي يحدد نوع الحكاية، وعدد الأبطال، ومواقع التصوير، وسذاجة الرسائل، وتكريس الموضة».
وختم رضوان مداخلته باعتراف قال إنّه «لا يدخل في حيز التطهر أو درء الانتقاد»: «نحن خياطون لمقاسات المنتج الخاضع للقناة، أضعف العناصر وأكثرها هشاشة، لسنا أصحاب القرار في شيء، حتى في عنوان مسلسلنا... وجهوا سهامكم باتجاه الدريئة الصحيحة، فمن الوارد بعدها الخروج بقراءة لشكل الحل».
أعدنا توجيه السؤال ذاته بصياغةٍ أخرى إلى الكاتب السوري فادي قوشقجي. حينما يقال إنّ الدراما السورية تعاني من أزمة نصوص، فهل هذا يعني أن أفكار الكتّاب نضبت، أم أنهم يواجهون أزمة في التكيّف مع متطلبات السوق أو محاذيره السياسية (ماذا نقول أو كيف نصوغ ما نريد قوله)؟ يجيبنا كاتب «ليس سراباً» (2008): «هناك أزمة النصوص في مكان واحد هو مخيلة المتسبّبين الحقيقيين بأزمة الدراما. أستطيع أن أعدّد أسماء الكتاب الممتازين في الدراما السورية، وأثق بأنني أستطيع تعداد عشرة أسماء على الأقل، لو كتب كل منهم عملاً كل سنتين، لحصلنا على خمسة أعمال ممتازة سنوياً، وهذه نسبة معقولة».
وجزم قوشقجي بأنّ الأزمة «تكمن في ثالوث الطغيان؛ رأس المال والدين والسياسة. رأس المال، ممثلاً بمعظم المحطات الفضائية والمعلنين وشركات الإنتاج، هو من يختار المحتوى، ويفضّل الهزيل منه فيشتريه ويطبّل له، ثم يأتي ليحدثنا عن أزمة نصوص. الدين والسياسة يصبّان في عقول الرقابات العربية المتعددة، التي تحاول قصّ أجنحتك عندما تقتطع مشاهد من نصوصك، آملةً أن تتعلم الدرس وتكتب ما يوافق هوى ذلك الثالوث».
لكن حتى الكتّاب المعروفون يؤخذ على الكثير منهم اليوم تكرار مقولاتٍ قدموها في أعمالٍ سابقة، ألا يعتبر ذلك مؤشراً إلى وجود أزمة مضمون؟ يردّ صاحب «تعب المشوار» (2011): «الكاتب يملك مجموعة رسائل محددة يكتبها في أعماله المتعددة بطرق مختلفة. تجنّب تكرار الذات هو من أصعب ما يواجهه الكاتب. في النهاية، القصص ليست على قارعة الطريق إلا عند من يميل إلى الاستسهال والاستخفاف بالجمهور. قد يقع الكاتب في مطبّ التكرار أحياناً، ولا أستطيع أن أبرر ذلك، لكنها ببساطة الطبيعة البشرية. علينا أن نحاول تجنّب ذلك، وإذا وقعنا فيه ولم نجد حلاً له، فربما يجب أن يعني ذلك أنه آن أوان الاعتزال».
التحديات التي يواجهها كتّاب الدراما السوريّة خلال السنوات الأخيرة لا تقتصر على الكتابة بيدين مكتوفتين، أو تطويع القلم لمسايرة الموضات السائدة، بل يعاني معظمهم أيضاً ممّا يمكن وصفه بـ«استباحة» نتاجهم، من جانب بعض المخرجين وشركات الإنتاج التي تعطي المخرج الكلمة العليا في التعامل مع نصوصهم وفقاً لرؤيته أو رؤيتها، خاصّةً أنّ النص القانوني لتنازل الكاتب عن نصّه لدى «لجنة صناعة السينما والتلفزيون» يتيح لصاحب الشركة التصرف بالنص، «كما يتصرف المالك في ملكه»، ولا توجد آليات قانونية واضحة تحفظ حقوق الكاتب الماليّة، وهذا يجعله فريسةً أحياناً للمماطلة باستكمال تحصيل حقوقه، أي إننا أمام مستويين من الاستباحة للحقوق الماديّة والمعنوية، تسعى مجموعة كتّاب سوريين لمواجهتها عبر تأسيس رابطة أو جمعية تحفظ حقوقهم. ويقود هذا المسعى أحمد حامد، بالشراكة مع مروان قاووق، وعثمان جحى، وبثينة عوض، وسعيد حناوي، وغريس عباس، وريما الديري، ورامي المدني، ومحمود إدريس، والزميل علي وجيه.
للمفارقة، وبينما كنّا ننتظر الإجابة من حامد حول آفاق الرابطة التي يسعون إلى تأسيسها، بدا غاضباً بعدما شهدنا سلسلة اتصالاتٍ هاتفية عاصفة، أجراها مع أحد المنتجين الذي يماطله منذ عامين (على حدّ قوله) لتحصيل باقي مستحقّاته عن نصٍّ تلفزيوني، عُرِضَ منه ثلاثة أجزاء كان أحدثها في موسم دراما رمضان 2016.
افتتح صاحب «الخوالي» (2000) حديثه لنا قائلاً: «هناك حالة من عدم الرضى عند الجميع، كلنا نشكو... أنا ككاتب أعتبر نصّي هو الأجمل، ولكن قد يشكو منه المخرج، ويوافقه المنتج لعدم معرفته، أو بناءً على أحكام لجنة قرّاء قد لا تكون موضوعيّة. نحن لدينا أزمة ثقة، ونفتقر إلى الحَكَمْ النزيه. ووسط ذلك، يبدو جيداً أننا ننتج أعمالاً تشاهد إلى حدّ ما، لكن لا يوجد عمل بدون نص، وكاتبه مستباح... وهذه هي المشكلة».
أحمد حامد أوضح لـ«الأخبار» أنّ الرابطة المنشودة لكتّاب الدراما السوريين، التي سيدعو الجميع إلى الانضمام إليها «بصرف النظر عن مواقفهم السياسية»، يتركز اهتمامها على «ضمان كامل حقوقهم الماديّة والمعنوية في أي عملٍ تلفزيوني، وقرار التأسيس يدرس حالياً مع لجنة صناعة السينما والتلفزيون، لأنّها الجهة التي يتنازل لديها الكتّاب عن نصوصهم، وهي المعنية بإصدار إجازات تصدير الأعمال المُنْجَزَة، وبالتالي عملنا في ظل هذه اللجنة يتيح لنا تعطيل عملية التصدير، في حال وجود إشكالات مع الكاتب أو كافّة العاملين، إلى حين تسويتها».
هذا يعني أنّ شركات الإنتاج ستكون الخصم والحكم في آنٍ واحد، باعتبار أن اللجنة التي تسعون إلى العمل في ظلّها مكوّنة بشكلٍ أساسي من أًصحاب تلك الشركات أو ممثليها؟!
في إجابته عن تساؤلنا، يترك حامد الباب موارباً للتفاؤل بـ«صيغة من التفاهمات والمعايير سيتم التوافق عليها مع كلّ الأطراف، كبديلٍ لطريق المحاكم الطويل».
تفاؤل كاتب «ليالي الصالحية» (2004) ومساعيه الجديّة لإيجاد الحلول، قد يصطدمان برؤية لديها ما يؤديها في الواقع السوري اليوم، عبّر عنها لـ«الأخبار» الكاتب فادي قوشقجي، الذي لم يتبلغ بعد «محاولات تأسيس جسم نقابي يحمي حقوق الكتاب». وعلّق على ذلك: «في ما مضى، حصلت هذه المحاولات. أما الآن، فأنا لا أعلم شيئاً عن ذلك. باختصار، إرساء تقاليد تحترم حقوق الجميع في صناعة الدراما هو أمر أكثر من ضروري، لكنّ الخراب يعمّ النفوس تماماً الآن كنتيجة طبيعية لخراب أصاب البلاد ككل. والبحث عن هذه التقاليد قد يبدو حلماً اليوم قياساً إلى ما كان عليه الامر قبل الازمة. أنت لا تملك حتى مرجعية واحدة يقبل بها الجميع بانتماءاتهم السياسية المختلفة، فلا أدري كيف يمكن التأسيس لتقاليد من دون مرجعية متفق عليها. سنحصل على تقاليد «نظام» وأخرى لـلـ«معارضة» ربما؟؟ فعلاً لا أدري».
من جهته، يرى الكاتب الزميل علي وجيه أنّ الجهود التي يبذلها أحمد حامد لـ«تأسيس إطار أو جسم جامع، بالتعاون مع بقيّة الزملاء، مشكورة»، وتحدّث إلى «الأخبار» عن «الجديّة» التي لمسها في الاجتماع التشاوري حول هذه الرابطة، خاصّة مع التأكيد على «عدم وجود فيتو سياسي أو غيره يحول دون انضمام أيّ من الكتّاب السوريين».
كاتب «عناية مشددة» (بالشراكة مع الممثل يامن الحجلى 2015)، تطرق إلى الحيف الذي يثقل كاهل الكاتب السوري، ووصفه بـ«الحلقة الأضعف» في ظلّ القوانين والأعراف المعمول بها حالياً؛ فـ«الأجور مضحكة قياساً بالشركاء الآخرين من نجوم ومخرج. العقد مع الشركة المنتجة لا يحصل الكاتب على نسخة منه في معظم الحالات. تفاصيل التنازل الخطّي عن النص في لجنة صناعة السينما أشبه بصكّ عبودية من القرون الغابرة، وليس متاحاً أمامه سوى تسليم رقبته لنصال الإجحاف والاستباحة والتشويه، إلى حدّ لا يُقارَن بـ«درامات» المنطقة؛ قد تتغيّر روح الورق وتوجّهاته، ويمكن أن يُنسَف بالكامل من دون رفّة جفن، والويل لمن يجرؤ على الاعتراض والدفاع عن مشروعه، وإلّا فسيعامل هذا «المارق» على أنّه ناشز عن البقيّة، وغالباً ما يتم شطبه من الاقتراحات، لأنّه متعب ومسبّب للصداع».
وشددّ وجيه على ضرورة صون مجموعة «حقوق بديهية» للكتّاب، كأن «لا يتم التنازل النهائي في لجنة صناعة السينما، من دون استكمال حقوق الكاتب الماديّة والمعنوية (أي تنفيذ المتفق عليه بخصوص المشروع)، والحصول على نسخة من العقد، وعودة ملكية النص إليه بعد ثلاث سنوات، في حال عدم تنفيذه من قبل شركة الإنتاج».
ختاماً... أكّد زميلنا أنّ الضمان لتحقيق كلّ ذلك هو «اقتناع المخرجين والمنتجين والنجوم بجديّة مطالبنا ككتّاب هذه المرّة، وكوننا متعاضدين وأقوياء قانونياً، وهكذا سيجدون أنفسهم مجبرين على احترامنا، والتفكير ملياً قبل العبث معنا. أمّا بخصوص الكباش التقليدي بين الكاتب والمخرج، فيمكن حلّه عن طريق النقاش المنفتح الذي يفضي إلى تصوّر مشترك، وعندئذ تصبح نسخة النص المتفق عليها قبل بدء التصوير نهائية، ومقدّسة، وغير قابلة لاجتهادات مَن يحلو لهم البصاق في صحون الآخرين».