2012/07/04

حديث مع الصبوحة في شوارع باريس!
حديث مع الصبوحة في شوارع باريس!


كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1983:مجلة الموعد

كانت ابتسامتها بمثابة الضوء الذي ازال عن نفسي بعضاً من قسوة المنفى المتجوّل الذي عشت فيه بانتظار أن تعود الحياة إلى مطار بيروت الدولي، أو تصبح أي طريق إلى لبنان سالكة وآمنة، سواء أكانت برية أم بحرية أم جوية!.

ودائماً وفي أيام المحنة، ليس أقرب إلى نفسك ولا أكثر فهماً لمشاعرك من إبن بلدك، ورفيق عمرك ومن كنتما معاً في السراء والضراء، ومن تغلّبت الصداقة بينك وبينه على كل الظروف والإعتبارات وحتى الخلافات السطحية العابرة!.

وصباح على مدى السنين كانت بالنسبة لي الصديقة الأحب والأقرب، والإنسانة المتعدّدة المواهب والوقادة الذكاء والأستاذة في اللياقة، وفي كل مرة نلتقي وفي أي بلد نجتمع، لا بدّ وأن نسترسل في حديث الذكريات.

ويوم أقفل مطار بيروت ووجدت نفسي أشبَه بالمنفى في باريس، كان الاتصال يومياً بيني وبين الصبوحة، سواء عن طريق التليفون أو اللقاء الشخصي، أو الإستمتاع بسماعها وهي تغنّي بإبداع ومرح وانسجام، طوال ساعتين وأكثر أحياناً في ملهى “اليلدزلار” الذي ما زالت ملكيته وإدارته مشتركة بين السيّد الياس ميرزا وقرينته الأنيقة منى، والمدير الشاب الحاج نقولا سيدة..

وذات ليلة طالت السهرة مع صباح.. إلى الصباح!.

وعندما كنت أودّعها قبل أن يذهب كل منّا إلى فندقه، قالت لي:

* موعدي غداً مع “الموعد”.. سوف أذهب لأشتري العدد الجديد منها من الكشك القائم قرب مقهى “الفوكيت” ما رأيك في أن نلتقي هناك ظهراً، ونقوم بفسحة حلوة في باريس ما دامت الشمس مشرقة، وأنا منذ أمد طويل لم أرَ المعالم الباريسية التي أحبها مثل برج ايفل، وقوس النصر، والشنزليزيه!!

قلت:

* وهل من طلب أجمل من هذا الطلب، سوف أكون بانتظارك في “الفوكيت” عند الساعة الثالثة بعد الظهر، وما أرجوه منك فقط هو أن أسجّل جولتنا الباريسية بالكاميرا، وأن يكون الحديث الذي نتبادله خلال الجولة حديثاً صحفياً!.

وقالت الصبوحة:

ـ حاضر يا فندم..

وكنّا معاً على الموعد في الوقت الذي حدّدته الصبوحة لشراء “الموعد” من “الكشك” المجاور لمقهى “الفوكيت”!.

وأينما كانت الصبوحة فلا بدّ من أن يحدث ما يثير ضحكها!.

وحدث هذا الشيء في المقهى..

ان الصبوحة بقامتها الحلوة، وبذلتها الذهبية وقبّعتها ونظّارتها، أثارت اهتمام الجالسين في مقهى الرصيف الشهير “فوكيت” في شارع “الشانزليزيه”، واجتذبت إليها أكثر ونحن جلوساً على مائدة صغيرة، بائع صحف مراهق بدا عليه أنه نصف غائب عن الوعي بفعل ما تناوله من مخدرات..

واقترب بائع الصحف من صباح وقدّم إليها صحيفة..

ولأنني رأيت المشهد طريفاً، فقد أردت أن التقط له صورة بكاميرا الهواة التي أحملها عادة في إجازتي!.

وفجأة انتفض الصبي البائع في وجهي ثم صرخ: نو فوتو.. نو فوتو.. “أي لا صور لا صور”، ثم رمى الصحف جانباً وضرب الأكواب والأقداح الموضوعة على المائدة وهو يصرخ معربداً، وتسمّرت أنا من المفاجأة غير المنتظرة، واستغرقت صباح في الضحك، وعلى الفور هجم حارس المقهى على البائع ويبدو أنه اعتاد منه على مثل هذا “العدوان” على رواد المقهى، فانهال عليه فوراً بالضرب، واغتنمت فرصة ابتعادهما قليلاً عن مائدتنا، فأخذتُ صباح التي كانت ما زالت تضحك، أخذتها من يدها وابتعدنا عن المقهى، وتابعنا جولتنا الباريسية تحت أشعة الشمس، وكان طريفاً أن نشهد من بعيد بأن المعركة بين بائع الصحف وحارس المقهى استمرّت بعد ذهابنا لأكثر من عشر دقائق..

كان لا بدّ من حكاية تضحك لها صباح في الجولة، وها قد جاءتها الحكاية التي كانت تستغرق في الضحك، وأستغرق أنا معها فيه، كلما تذكّرنا ما حدث لنا في مقهى الرصيف!.

وكانت محطتنا الأولى أمام قوس النصر، حيث تتجمّع على مدى ساعات النهار مواكب السياح الذين يتفرجون عليه، وعندما كانت الصبوحة تقف أمامه لالتقاط بعض الصور، تجمهر حولها عدد كبير من السائحين الذين بدا عليهم الانبهار بمظهرها الأنيق وشخصيتها التي توقّعوا أن تكون غير عادية، واقتربوا مني ليسألونني: هل هي نجمة من هوليوود؟ فكان ردّي عليهم:

* لا انها نجمة من لبنان!.

والمسافة بين “قوس النصر” و”برج ايفل” ليست بعيدة.. وما رأيك يا صبوحة في أن نمشيها على الأقدام ونتحدّث؟ وتقول: يا ريت.. أنا محرومة من المشي في هذه الأيام، وفي أيام الهدوء والراحة في لبنان كنت أمشي كل يوم أكثر من ساعتين حول البيت، وأتنشّق الهواء النقي، أما الآن فيا حسرة علينا!.

وبعد أن اجتزنا الشانزليزيه قالت لي صباح:

ـ أتعرف انني أصبحت جدّة للمرة الثانية..

قلت:

* متى؟

أجابت:

ـ من كام يوم، اتصل بي ابني صباح من أميركا، وزفّ إليَّ نبأ ولادة ابنته الثانية، وقال لي انها تشبهني كثيراً..

وقلت لها:

* نمسك الخشب، فهل هناك أجمل من أن تكون الجدات في مثل صباك، وجمالك الدائم وحيويتك المتدفّقة؟

وتبتسم صباح بسعادة وتقول:

ـ الحمد لله.. هذه نعمة..

وقلت لها:

* بالمناسبة انني في أكثر من حلقة اجتماعية في “كان”، كنت أواجه بسؤال واحد من الكثيرين والكثيرات، وهو: كم تبلغ سن صباح؟ وعندما أكتفي بالقول بأنك فوق الخمسين، تنفجر من حولي المناقشات والاعتراضات، ويروح كل واحد يحدّد

لك العمر الذي يقدّره أو يتصوّره، لدرجة انني تخيّلت أن القضية الوحيدة التي تهم المجتمع العربي الذي يصطاف على شواطئ “الريفييرا” الفرنسية هي العمر الذي بلغته صباح!!

.. وكنّا قد اجتزنا “الشانزليزيه” ووصلنا إلى آخر شارع “جورج الخامس” وعلى وشك أن ننعطف إلى حيث برج “ايفل” عندما توقفت صباح وقالت:

ـ منذ عشرين سنة، عندما كنت أُسأل عن سني في أي حديث إذاعي أو صحفي أعلن بصراحة أنني من مواليد عام 1927، أي انني الآن في السادسة والخمسين من عمري، وأبداً لم أغيّر أقوالي ولا كنت أقول انني ولدت بعد ذلك!.

ومضينا في المشوار الباريسي وقلت لها:

* وعلى العموم، فهناك شاهد عليك لا يكذب هو فيلمك الأول “القلب له واحد” الذي أنتج في عام 1943 ويومها كنت في السادسة عشرة من عمرك!.

وأضافت تقول:

ـ يومها لم أوقّع على عقد الظهور في هذا الفيلم مع منتجته السيدة آسيا داغر، بل وقّعه عني والدي، لأنني لم أكن بعد قد بلغت سن الرشد التي هي الثامنة عشرة، وأنا عندما رشّحت للسفر إلى مصر وتمثيل دور البطولة في فيلم “القلب له واحد” كنت ما زلت في المدرسة، وحتى مندوب الشركة في بيروت، وهو المرحوم قيصر يونس، رآني مرة وأنا.. بالمريول!.

وأمسكت بيدي وقالت:

ـ أتعرف يا بديع؟ أنا أتمنى فعلاً أن أصل إلى سن السبعين وأبقى على ما أنا عليه، وكمان، ان الذين يضيفون إلى عمري عدّة سنوات، لا يعلمون أنهم يمتدحونني، لأن السن الكبيرة مع الظهور الحسن هو تكريم للمرأة..

قلت للصبوحة ونحن نقترب من برج “ايفل”:

* سمعتك وأنت تغنّين في ملاهي باريس وأيضاً وأنت تغنّين في ملاهي لندن، وأيضاً رأيتك على المسرح في بيروت، القاهرة والكويت، ولاحظت أنّ حب الجماهير يغمرك بمجرّد ظهورك على المسرح، فما هو السر في ذلك!

وتمهّلت في السير قليلاً وقالت:

ـ أولاً أنا أحافظ على شكلي وملابسي وأناقتي، وأنا أيضاً قريبة جداً من الناس، يعني أنّ كل من يجلس لكي يستمع إليّ، يظن نفسه قريبي، أو صديقي، وهذا حتماً عطاء من الله، فهو الذي وضع حبي في قلوب الناس!.

وقلت لها:

* ولكن أيضاً من الناحية الفنية أنت متجدّدة دائماً..

فأجابت:

ـ أنا بالفعل أحافظ على شخصيتي الفنية، أراعي نفسي وصوتي، لا أدخّن ولا أتناول المشروبات الروحية ودائماً أقدّم للناس الجديد الذي يحمل إليهم السعادة، والذي يطربهم ويسرّهم، والذين يسمعونني أغنّي يداخلهم الشعور بالسعادة، ويتناسون همومهم تماماً وهذا شيء مهم ومؤثّر.

وعدت أقول لها ونحن نتابع السير:

* أنا معك في كل هذا، ولكن أضيف إليه بأن غناءك هو لون في الغناء العربي جديد وليس له نظير..

قالت بدلال:

ـ كنت أريد أن أقول هذا، ولكني خشيت أن يُقال بأنني أمدح نفسي، والحقيقة انني في الغناء صاحبة أسلوب خاص ومميّز، وأظن أنه محبّب إلى الناس ولولا ذلك لما حافظت على نجاحي في عالم الغناء طوال أربعين سنة!.

وقلت لها:

* لقد اعتادت “الموعد” أن تغدق ألقابها على نجوم الفن، وقد سبق ان وصفتك بـ”الشحرورة الجميلة” و”الصبوحة الحلوة” و”المطربة المشرقة” إلى آخر ما هنالك من ألقاب، ولكن ما رأيك الآن لو نجد لقباً أو وصفاً خاصاً للون الغنائي الذي اشتهرت به..

فقالت:

ـ تفضّل.. لقّب!

قلت بسرعة:

* أود أن أسمّيه “لون الفرح” ذلك أن أغنياتك كلها تحمل طابع الفرح، وحتى لو كنت تغنّين أغنية حزينة فإن الفرح يغلب عليها..

قالت:

ـ ومع التواضع الشديد، أقول لك أن ما يميّز غنائي أيضاً هو النفَس الطويل في المواويل، وهو ما لا يقدر عليه أي مطرب أو مطربة، وقد ذهل الأجانب عندما استمعوا إليّ في أميركا وكندا من طول نفَسي، وقالوا لي ان الـ”أُوف” الطويل التي أطلقها تؤكد بأن حنجرتي غير عادية!.

ولم ننته إلاّ ونحن أمام برج ايفل..

وتطلّعنا إلى الساعة، فرأينا اننا قطعنا المسافة في أكثر من أربعين دقيقة..

واسترحنا على أول مقعد رخامي في الشارع الذي يفصل بين نهر السين وحدائق برج ايفل!.

وأدعها تستريح قليلاً من الكلام..

وأستريح أنا أيضاً!.

وإلى حلقة ثانية نكمل بها المشوار!.