2012/07/04

العرض الجيد يستحق جمهوراً جيداً
العرض الجيد يستحق جمهوراً جيداً

خاص بوسطة- رامي باره


"الآلية" مصطلح ميكانيكي كان عنوان للمسرحية التي قدمها المخرج المسرحي "مانويل جيجي" منذ أيام على خشبة مسرح القباني، ولعل "الآلية" هو العنوان الأفضل للتعبير عن آلية المجتمع وذكورته في تعامله مع المرأة.

"جيجي" كما عوّدنا "أوجد أبجديته الخاصة" التي تناسبت مع عرضه، والتي سبق وقدمها في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي فحصل على جائزة أفضل تقنية مسرحية، ليعيد اليوم معالجتها بأسلوبٍ مختلف مخرجاً المسرحية من طابعها الواقعي الموجود في نص الثلاثينيات الذي كتبته المؤلفة الأمريكية "صوفي ترود ويل" مضيفاً للعرض قوة تعبيرية مضاعفة بدأت بإسناد الأدوار الذكورية العديدة في المسرحية إلى ممثل واحد، وهو "أويس مخللاتي" الذي لعب دور الزوج والأب والعشيق والطبيب والكاهن، وكأن "جيجي" يريد إخبارنا بأحادية المنطق الذي يتعامل به الرجل مع الأنثى في المجتمع، وهو منطق الذكورة الذي قد يورط المرأة بدايةً في زواجٍ لم ترغبه ومع زوجٍ لا تحبه يعاملها وكأنها مجرد أداة لإشباع رغبته، ويتكرر الأمر نفسه في جميع الأدوار التي قد يلعبها الرجل، سواء إن كان عشيقاً أم أباً أنانياً أم كاهناً متملقاً أم محققاً شرساً.

الأماكن المتعددة التي احتواها نص "صوفي ترود ويل" تحايل عليها "مانويل جيجي" بأسلوب مبتكر ساعده فيها الديكور البسيط والمختزل الذي صممه "نعمان جود"، فلم تكن الخشبة هي المكان الوحيد للعرض، محولاً المخرج أبواب المسرح وخشبته بما ورائها وما أمامها إلى أماكن وأزمنة متعددة تدور في أرجائها أحداث المسرحية، ومستعيناً بتقنية مسرح الظل لينقل إلينا بعض ذكريات شخصيات العرض، وبعض الأماكن الأخرى التي تجري فيها أحداث المسرحية.

كما جاء اختيار "مانويل جيجي" موفقاً للغة التي حكاها الممثلون، بحيث اعتمد العرض على إمرأةٍ مسنة تروي للجمهور بعض ذكرياتها المؤلمة التي عاشتها مع الرجال، ابتداءً من إعالة والدها في العمل الذي لا يرحم، ومروراً بإجبارها على الزواج، وانتهاءً بحياتها الزوجية التي كانت خاتمتها مأساوية، فكانت المسنة تقص حكايتها (لنفسها) وللجمهور باللغة العامية، أما لغة الأحداث التي ترويها فقد حكاها الممثلون بالفصحى، فكانت نقاط الالتقاء التي تمت بين هذه المسنة وتلك الشابة التي في ذاكرتها حاملةً لدلالاتٍ رمزية عميقة، أفضت بالمسنة لترمي كل ما تبقى من (اكسسورات) الحدث الماضي الذي شاهدناه على المسرح في سلة القمامة، وكأنها ترفض كل ما تبقى من تلك الصور في ذاكرتها، والتي رأيناها في مشاهد معبرة اتقنت فيها الممثلة "رنا كرم" أداء الحالات النفسية المتعددة التي عاشتها الشخصية.

"مانويل جيجي" استفاد من كل تقنيات المسرح بما يخدم الدراما التي يرويها، فاعتمد على المؤثرات الصوتية البسيطة والمعبرة أكثر من اعتماده على الموسيقى المسجلة، واستعان بالإضاءة عوضاً عن الديكور في تجسيد لحظات الأمل التي تخللت المأساة التي عاشتها البطلة، مجسداً بريق الأمل ببقعةٍ ضوئية على شكل نافذة رافقتها موسيقى هادئة كل ما ظهرت على جدار الديكور، لتنقطع الموسيقى والضوء (أو النافذة) كلما لمحه الرجل.

أما عن المكان التي تدور فيه أحداث المسرحية فيصعب تحديده رغم احتفاظ المخرج بأسماء النص الأصلي، ولعل هذا السبب تحديداً هو ما يجعل عروض "مانويل جيجي" تتخطى دائماً الحدود المكانية ليتطرق في كل مرةٍ إلى عرضٍ أكثر إنسانية.

أما خاتمة المسرحية فجاءت منطقية وهادئة دون صرخة إعلامية غبية غريبة عن جسد العرض، فبعد أن ضربت الزوجة زوجها بإناء زجاجي وقتلته، مفجرةً تلك القيود التي فرضها عليها الرجل منذ زواجها، يختم المخرج عرضه بعد صدور حكم الإعدام وبقاء المرأة وحيدة على سريرها في السجن.

"مانويل جيجي" مخرج مسرحي مسرحي قدم الكثير للمسرح السوري في تجربة تجاوزت ثلاثين عاماً وخمسين عرضاً مسرحياً، وهذا ما يجعل الكثير مما قاله عن تلك التجربة منبع تأمل وإفادة لأجيال المسرح اللاحقة:

"ليس ضرورياً للمسرح أن يعمل انقلاباً، بل فقط أن يحرك ذهن الناس"

" يحق لكل انسان أن يتلقى العرض كما يريد, لذلك فعرضي يمكن أن يصبح ملايين العروض في ذهن المتلقي الذي يستقبل رموزه كلٌ حسب ظروفه ومفهومه"

"نحن نبني أمكنة للثقافة لكن لا نبني الإنسان، لا تبنِ هذا الحجر بل ابنِِ الإنسان، وابنِ علاقات جيدة بين الممثلين والعاملين، حينئذ لا يبقى هنالك أزمة مسرح"

" أنا طوال وقتي كنت مثل الدونكيشوت، لأنه بعد كل هذا التعب أسأل نفسي: هل كنت أعمل بشكلٍ صحيح؟!"

" إن التفريخ الانساني المتشابه والآلية التي نعيشها في العصر الحالي تجعل الشخصيات متشابهة, بلا ملامح ذات إيقاع موحد حيث لم يعد بإمكاننا أن نرى اشخاصاً متمايزين إلا فيما ندر"

"أؤمن بأن جمال المسرح بعدم إدخال إية تقنيةٍ سينمائية أو تلفزيونية، لذلك فإنني استخدم خيال الظل وهو نفس حي يبرز جمالية المسرح"

"أريد أن أقول ولو بشكل رمزي أن شخصية دون كيشوت أصبحت قليلة في حياتنا، دون كيشوت هو ملح الحياة، بمعنى أنّه يدفع الناس، ولو بوجود الخسارة، إلى عمل شيء ما متحدياً كل الحقائق الموضوعية في سبيل فكرة راسخة في عقله، نحن بحاجة لشخصية دون كيشوت بشكل دائم فبدون هذه الشخصية سوف تنتهي الحياة"

"قد نكون أضعنا الكثير من حياتنا في اللهاث وراء القضايا التي حسبنا أنها كبيرة، ونسينا الأشياء الأهم في الحياة، وهي الحالة الإنسانية . ومن أهمها قضايا المرأة والتي كانت مهملة على مر العصور، ولم تظهر إلا كضحية على مسرح الأحداث"

" المسرحيون يشبهون الدون كيشوت، ويدركون أنهم مهزومون، لكنهم يحاربون لصنع مسرح، رغم غياب الأمان والضمانات"

"إن أردت الحديث عن شيء فهناك مئة طريقة للحديث عنه، وليس ضرورياً الكلام المباشر الخطابي، ففي العمل الفني يستطيع الشخص قول ما يريد، ولكن بشكلٍ فنيٍ وجميل"

"أنا لا أحب إيصال ما أريد من خلال (البعبعة) والصراخ، بل بهدوء يمكن إيصال ما نريد للمشاهدين وما يريدونه. فحين أعمل عروضاً لا يُسمع بها إلا وقت العرض لأنني لا أحب (البوزات) والصراخ"

"الناس لم يعد همهم الثقافة بل الأكل والمعيشة. تغيرت الهموم، وفقد الإنسان شيئاً فشيئاً الأحلام التي يؤمن به"

" في أوربا كلما كبر الممثل والفنان ازداد بريقه والاهتمام به. أما هنا فيُرفس خارجاً"

"يجب وجود لجان ليس للرقابة الفكرية بل للفنية"