2012/07/04

*حديث مع نجاة قبل أن يحتار معها الأصدقاء!
*حديث مع نجاة قبل أن يحتار معها الأصدقاء!


مجلة الموعد - كتب الراحل محمد بديع سربيه عام1983:



في أيام جليل البنداري، صديقي الصحفي الظريف الذي رحل عن الدنيا وهو في عز التألّق، كانت المطربة نجاة الصغيرة تملأ جو الطرب بأغانيها الشجية..

لم تكن نجاة بعد قد انطوت على نفسها وبدأت تنظر بعين الحذر إلى كل شيء في الدنيا، وأيضاً لم يكن عندها أي خوف من الغد الفني.

رأيت نجاة الصغيرة وهي تستمع إلى عبد الوهاب ورأيت عبد الوهاب وهو يستمع إلى نجاة الصغيرة!

كلاهما مفتون بفن الآخر، وكلاهما يهز رأسه طرباً ويتمايل يميناً وشمالاً مع النَّغَم والأداء وشعر كامل الشناوي..

ورأيت كامل الشناوي وهو يستمع إلى نبضات قلبه من عبد الوهاب ومن نجاة!

وكامل الشناوي عندما يستمع إلى نجاة الصغيرة في لحن من ألحان عبد الوهاب يبدو كالراهب الذي يؤدي كل ما عنده من صلوات للسماء!

ان الفرق بين حنجرة وحنجرة كالفرق بين الموجة القصيرة والموجة الطويلة، فالموجة الطويلة محدودة، أما الموجة القصيرة فهي التي توصل الألحان والأنغام إلى أبعد مدى.. وحنجرة نجاة الصغيرة كالموجة القصيرة لا تقف عند الأذن، بل تتسلّل إلى الأعماق!

ولقد عادت الموجة القصيرة من بيروت بالطائرة في الليل رغم أنها تكره الطائرات، وتفضّل أن تعود ماشية على قدميها!

وعندما قلت لها أن السفر بالنهار أكثر أمناً من السفر بالليل، قالت: أبداً أنا أعيش الليل وأحب الليل، ولا أستمع إلى الموسيقى والغناء إلاّ في الليل

وقالت أيضاً:

ـ أنا لا أعطي شيئاً من فني للنهار ولا أستوعب نغمة إلاّ في الليل!

وقالت نجاة الصغيرة:

ـ ان أول نداء سمعته وأنا طفلة، وردّدته على المسرح لم يكن “يا نهار” وإنما كان “يا ليل”..

وترامى إلينا صوت عبد الوهاب من غرفة أخرى في منزل عبد الوهاب.. وكان يغنّي البيت الأول من قصيدة “لا تكذبي” فنهضت نجاة الصغيرة وهي تمشي على أطراف الأصابع، وفتحت زجاج النافذة وأخذت تصغي باهتمام.

ثم عادت وجلست في مكانها، فقلت لها:

* والشمس؟


قالت:

ـ أنا لست من هواة الشمس.

وضحكتُ أنا، فسألتني نجاة:

ـ لماذا تضحك؟

فذكّرتها بـ”شيش” نوافذ شقّتها الذي لم أرَه مفتوحاً أبداً.. وذكّرتها بباب الشرفة الذي لا يفتح إلاّ ليلة واحدة في السنة هي ليلة عيد ميلادها، ومن حُسن حظ الشرفة أنّ عيد ميلاد نجاة في شهر اغسطس “آب”..

ورغم أنّ هذه الشرفة تطل على النيل، وعلى السفارة الروسية، وعلى شقة الشاعر عزيز أباظة، وعلى مناظر أخرى، فإنها لا تفتحها أبداً!.

قلت لها:

* كل شيء عندك مغلق حتى قلبك!


فضحكت أو ابتسمت أو خيّل إليَّ ذلك!

ثم قالت:

ـ الليل ليس فيه ملل.. أما النهار فأجدني حائرة ماذا أفعل فيه؟

قلت لها:

* كيف لا تستمعين إلى الغناء في النهار..


قالت:


ـ زي اللي يولّع النور في النهار!.. تفتكر دي حاجة طبيعية.

وانتقل بنا الحديث إلى الفنانين والنجوم الذين تردّدوا على بيروت في هذا العام، فقالت: إن عدد مَن تردّد على لبنان في العام الماضي كان أكثر، وقالت: إن الفن هو الباسبور الذي ندخل به إلى قلوب الناس ومشاعر الناس!

وقالت لي انها رأت أحد الصحفيين يسأل الفنان العالمي خاتشاتوريان، وأرادت أن تستمع إليه وهو يتحدّث، فسألت الصحفي: ماذا يقول؟.. فقال لها الصحفي: إن خاتشاتوريان يؤمن بأنّ الموسيقى هي السلام.. وأنه إذا أَحَب أي إنسان موسيقاراً من بلد غريبة، فإنه يخشى أن تسقط عليها قنبلة من أجل هذا الموسيقار..

ووصفت لي نجاة الصغيرة الموسيقى بأنها مانعة الصواعق عن بلادنا..

وقالت نجاة..


ـ قديماً قيل: مَن يشرب ماء النيل مرة لا بدَّ أن يعود إليه، وفي رأيي أنّ مَن يولد على شاطئ النيل لا يستطيع أن يستقر إلاّ على شاطئ النيل..

قلت لها:

* لماذا تستعملين الطائرة، مع أنك تكرهينها؟


ـ انها مثل الحقن التي يصفها لي الطبيب.. أكرهها ولكنني مضطرة إلى أن أستعملها..

* ما هو الدواء الذي تتعاطينه باستمرار؟


ـ الأسبرين..

* من أين لك هذا الصداع؟

ـ من التفكير في أعمالي الفنية.. فأنا أفكر في اللحن الذي أتمناه، واللحن الذي أحفظه، واللحن الناجح، وأتساءل لماذا نجح، واللحن الذي لم ينجح لماذا لم ينجح، وهكذا ترى أنّ حياتي كلها تفكير وأسبرين..

كان عبد الوهاب قد انتهى من تسجيل قصيدة “لا تكذبي”، ودعانا لنستمع إلى الأغنية التي سجّلها بالعود.. ولم يكن حديثي مع نجاة الصغيرة قد انتهى، فاتفقنا على اللقاء في بيتها في اليوم التالي!

قلت لنجاة..

* سمعت من شقيقتك انك مرهقة ومصابة بضعف عام؟


قالت:


ـ الإحساس بالموسيقى يهدّ الجبل! وأنا شديدة الإحساس بالموسيقى وزي ما انت شايف مانّيش قد الجبل!.

* ازاي؟


ـ أولاً بيضعّف شهيّتي للطعام..

* مثلاً؟


ـ عندما أحفظ لحناً جديداً لا أشعر بالجوع، وأحسّ دائماً بأنني غير جائعة وهذا في رأي الأطباء يضعفني.. ان أيامي العصبية هي التي أستقبل فيها لحناً جديداً، ففي هذه الفترة لا آكل ولا أنام، بل أذاكر اللحن، وأعيش على غذاء وهمي اسمه الموسيقى!

ولقد وصف لي عبد الوهاب نجاة بأنها فنانة تؤمن بأن الفن هو أن تضيف إلى اللحن أشياء جديدة من حنجرتها ونبرات صوتها وطريقة أدائها، وتحس في تصرّفها بفنية وأستاذية منقطعة النظير، وليس هذا غريباً على نجاة، فـ: نجاة إذا كانت أصغر سناً من جميع المطربات، فإنها أكبرهن عمراً في الفن، لأنها تغنّي منذ20 عاماً، فقد اعتلت خشبة المسرح وغنّت قصائد أم كلثوم وهي في الرابعة من عمرها..

* وقال لي عبد الوهاب أيضاً انك تبذلين مجهوداً جباراً لكي تصِلي إلى ما وصلتِ إليه؟


قالت:


ـ انني الآن أستطيع أن أؤدي ألحان عبد الوهاب كما يريد.

قلت لها:

* هل أفهم من هذا أنك وصلت للدرجة التي تؤدين فيها ألحان عبد الوهاب، كعبد الوهاب نفسه؟


قالت نجاة وهي تنظر إلى الأرض في تواضع:

ـ لا أنا ما وصلتش..

قلت لـ: نجاة..


* ما أحَب الأصوات إليك؟


ـ في إيه؟

* في الآلات الموسيقية؟


ـ الكمان..

* ليه؟


ـ فيها رقة ونعومة وإحساس!

* هل صوت الكمان أجمل من صوت الناي؟


ـ بكتير!

* ليه؟


ـ الناي محدود والكمنجة مالهاش حدود!

قلت لـ: نجاة..


* ما أحَب إنسان إليك؟


ـ اسكت يا وليد.. وليد!

* وأَحَب حيوان؟


ـ أنا أشفق على الحمار..

* لماذا؟


ـ لأنه حيوان يثير العطف والشفقة فعلاً.. فهو يعمل كثيراً ويشعر دائماً بأنه مضطهد..

* والإنسان الذي تحترمينه؟


ـ الإنسان الذكي، والذكاء عندي ليس هو المكر، وإنما هو سرعة الفهم، والتمسّك بالأخلاق واحترام القيَم وحب الخير للناس، ولا شيء عندي أجمل من الجمال إلاّ الخير..

* لم أسألك عن الحيوان الذي تشفقين عليه، وإنما أنا أسألك عن الحيوان الذي تحبينه؟


ـ الغزلان فيها ترفُّع وكبرياء ورشاقة وحذر في تصرفاتها!

* هذه صفات المرأة؟


قالت:


ـ أنا أحب في المرأة ما أحبه في الغزال!

* وفي الرجل:


ـ الطيبة والشجاعة واللياقة!

* ما هي اللباقة؟


قالت نجاة:


ـ أن يفتح الرجل باب غرفة فيجد فيها سيدة فيتراجع بسرعة وهو يقول: آسف يا سيدي! فتفهم السيدة كلمة “يا سيدي” بأنه لم يرها، هذه هي اللباقة!.

قلت لـ: نجاة الصغيرة أو الموجة القصيرة:

* ما هو المَثَل الشعبي الذي تأثّرتِ به؟

قالت:


ـ “اللي يمشي عدل يحتار عدوه فيه”!

قلت لـ: نجاة الصغيرة:

* وأنت!


قالت الموجة القصيرة:

ـ أظن أنني لا أحيّر أصدقائي!..

***

ترى.. هل ما زالت نجاة “لا” تحيّر أصدقاءها وجمهورها أيضاً!؟